لم تعد غرائب الكثيرين من رموز تيار الإسلام السياسي تفاجئني، فقد تيقنت من أنهم يدورون في نطاق ضيق محدد لا يخرجون عنه، وباتت أغلب آرائهم وتصرفاتهم متوقعة إن لم تكن معروفة مسبقاً.
لكنني اتعجب من الناس الذين يصدقون أولئك الرجال، ولا يراجعونهم فيما يقولون! بل يبررون جهلهم وقلة معرفتهم ودرايتهم، مستسلمين للخطاب العاطفي السطحي الذي يدغدغ به أولئك الرجال مشاعر العامة.
ومن ذلك الفيديو التالي للمرشح الرئاسي حازم صلاح أبو إسماعيل:
بدأ المرشح اقواله بورطة وهمية يريد اسقاط دلالاتها على الواقع المصري، فعرض قضية جنود أمريكيين مسلمين وجدوا حرجاً في آداء مهامهم العسكرية في قتال مسلمي العراق وافعانستان وغيرهما تحت امرة الجيش الأمريكي. كالمعتاد، يجهل المرشح الفاضل أن نظام الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي هو بالتطوع recruitment، حيث أن نظام التجنيد الإجباري conscription ملغي من الولايات المتحدة منذ عام 1973 (راجع هنا) (وإن كان هناك نظام الخدمة الانتقائية والذي يسجل جميع الذكور الأمريكيين البالغين، في حال احتاجت الدولة لأي تعبئة إجبارية؛ راجع هنا). إذاً فالجندي الأمريكي يختار التجنيد والانخراط في السلك العسكري بكامل ارادته، ويختار موقفه كمقاتل تحت لواء العم سام بل ويسعى إليه بنفسه. ولكنها وسيلة رخيصة من المتكلم لاستثارة والبناء على عواطف مستمعيه ممن لا يعرفون حقيقة هذه القضية... و لِمَ لا؟ فلا أحد يعرف حقيقة الأمر، ولن يكلف أحد نفسه عناء التفتيش وراء أقوال الآخر!
هذا من حيث الدقة المعلوماتية. أما من حيث المفاهيم، فالمرشح حازم أبو إسماعيل يقدم فكرةً تعاكس مفهوم المواطنة الحديثة تماماً!
تُعَرِّف الموسوعة البريطانية المختصرة طبعة 2002 (Britannica Concise Encyclopedia) المواطنة citizenship بأنها "علاقة بين الفرد والدولة، لها عليه بمقتضاها الولاء وله عليها بمقتضاها حق الحماية. وتصاحب المواطنة، عموماً، الحقوق السياسية كاملة، بما فيها حق الانتخاب وتولي المناصب العامة. اما واجبات المواطن، عموماً، بمقتضى تلك العلاقة فهي الولاء، وسداد الضرائب، وتلبية نداء الخدمة العسكرية".
إذاً فواجب حمل السلاح حينما يدعو الوطن مثله مثل الولاء والإخلاص له، ومثله مثل دفع الضرائب. لا مجال للـ "اختيار" فيه، أو "إذا حبيت"، كما يقترح أبو إسماعيل. الخدمة العسكرية – خصوصاً في بلاد مثل بلادنا والتي تجعل أداءها إلزامياً – شرط أصيل من العقد المبرم بيني وبين الدولة لحظة حملت جنسيتها.
فإن أخذنا بمنطق أبي إسماعيل، ألا وهو الاعتذار عن أداء أحد شروط المواطنة مقابل دفع الجزية، أسأله: إذن هل يمكن أن اختار عدم الولاء لوطني – وهو من شروط المواطنة كالخدمة العسكرية تماماً – بالتجسس عليه مثلاً، مقابل دفع مبلغ من المال للدولة يعفيني من حفظ ذلك الشرط؟ طبعاً افتراض هزلي لا وزن له! وبه أكشف القيمة الحقيقية لحديث أبي إسماعيل المعسول.
أستاذ حازم، الحرب الدينية التي تفترضها أنت وأمثالك، ولأجل احتماليتها تقترح الجزية "رفعاً للحرج عن مسيحيي مصر" قد انتهت من الوعي الإنساني المعاصر، ولا يُنظَر إلى المحاربين باسم الدين – أي دين – في يومنا هذا إلا على أنهم إرهابيون، يبغون فرض الرأي والفكرة بالدانة والبارود. وهم كبير رسمه العرب لأنفسهم ونميته أنت وزملاؤك أن امريكا غزت العراق "المسلم"! عزت امريكا العراق الغني بالبترول! وهم كبير أن فرنسا تمنع الحجاب المسلم! منعت فرنسا الرموز الدينية كلها، مساوية في ذلك بين الصليب المسيحي والحجاب المسلم واليورمولكي اليهودي! وهكذا وهكذا، تريدون اقناع الناس أن اقطاب العالم الآن هي الشرق المسلم مقابل الغرب عدو الاسلام، فيُمَلِّك الشعب على نفسه رجال الإسلام ليقودوا الجهاد ضد اعدائه!
لا عجب إذاً حين نسمع من أقرانك في التيارات السياسية الإسلامية القول بأن المسلم الإندونيسي أو الماليزي أقرب للمسلم المصري من المصري المسيحي!
اسألك سؤالاً – أنت وتيارك – ناقش جوابه مع نفسك:
أنا مواطن مصري علماني. والمواطن العلماني ولاؤه الأول لوطنه، لا مرشده أو مفتيه أو اميره أو بطريركه، دون احتياج لاعتراف رسمي بهوية دينية أو عرقية، ودون انكار ايضاً لأي هوية دينية أو عرقية! فالدولة العلمانية لن تراني إلا كمواطن مصري. العلمانية تتعامل مع المواطن بصفته كفرد لا كعضو في مجموعة، وبذلك تحرر قراره ورأيه السياسيين من أي ضغط أو تخويف ديني خارجي. العلمانية تعلي من شأن الفرد في مقابل ضغط الجماعة، والضمير الفردي في مقابل التوجيه الجمعي.
العلمانية هي الحل، بالانتقال من دولة المتدينين إلى دولة المواطنين!