العلمانية، باختصار ووضوح، هي الاقتناع بأن الحكومات وكيانات أخرى متعلقة بها يجب أن تنأى بنفسها عن الأديان والمعتقدات الدينية. أي أن العلمانية هي الشكل الممنهج لفصل الدين عن الدولة. (وللعلم بالشئ، فإن فكرة العلمانية قديمة ولها بداياتها في فكر ابن رشد، الذي نادى بتحرير الفلسفة من قيود الدين).
استحدث George Holyoake لفظة Secularism عام 1851. وقد واجه حينها حرباً شرسة ممن لم يفهموه من المسيحيين، فكان رده عليهم، والذي يصلح لوقتنا الحالي:
ليست العلمانية فكرة ضد المسيحية، بل هي مستقلة عنها. العلمانية لا تشكك في اطروحات المسيحية، بل تطرح غيرها. العلمانية لا تنفي عن غيرها من التوجهات أنها مصدر للصواب، بل تقول أنها (العلمانية) فيها صواب أيضاً. العلمانية فكر متعلق بالحياة الدنيا، مبني على مصالح الحياة الدنيا، ويمكن اختباره وتحليله من واقع خبرات الحياة الدنيا.
فالعلمانية إذاً، على اطلاقها، فلسفة سياسية في المقام الأول، وخطأ فادح تصنيفها جنباً إلى جنب مع اللادينية والإلحاد! فبينما ينكر الإلحاد وجود الله، تتجنب العلمانية الاحتكاك بالدين سواء بالسلب أو الإيجاب.
ولأجل الدقة المنهجية، يتوجب علي في هذا السياق ذكر اتجاه من اتجاهات العلمانية انتهج معاداة الدين، بدأه Charles Bradlaugh والذي كان زميلاً لـ George Holyoake ، لكنهما اختلفا في تلك النقطة تحديداً (موقف العلمانية من الدين سلبي أم هجومي؟) - واخالني في غنى عن توضيح أن العلمانية التي انتهجها وانادي بها هي علمانية Holyoake التي تكتفي بفصل الدين عن الدولة، وترك لكلٍ مجال اختصاصه ونطاق عمله. هي علمانية لا تحتك بالدين إلا حين يبادر الدين - أو بالأحرى المتحدثون باسمه - بالتحرش بها.
اكرر - العلمانية ليست اتجاهاً مضاداً للدين، إنما هي نطاق منفصل تماماً عن الدين غير معني به. ليس العلمانيون ملحدين إنما هم ليبراليون. هم، كما قال المفكر الاسلامي سليم العوا (جريدة الشروق 7 ابريل 2011) أقوام مؤمنون لكنهم يرفضون أن يحكمهم رجال الدين؛ ورجل الدين، كما اراه، هو كل من خرج يوماً منادياً بفكر، مرغباً فيه بثواب أو مرهباً منه بعقاب الهيين.
العلمانية التي انتهجها لا ترفض الدين، إنما ترفض أن يتميز اتباع دين ما على غيرهم من اتباع ديانات اخرى أو ممن لا يعتنقون ديناً - إذ أن ذلك التمييز ينطوي بالضرورة على انتقاص من حقوق جماعة لحساب اخرى.
العلمانية التي انتهجها جزء لا يتجزأ من الديمقراطية التامة التي نسعى إلى ضخها في شرايين حياتنا السياسية - فالعلمانية تتعامل مع المواطن بصفته كفرد لا كعضو في مجموعة، وبذلك تحرر قراره ورأيه السياسيين من أي ضغط أو تخويف ديني خارجي. العلمانية تعلي من شأن الفرد في مقابل ضغط الجماعة، والضمير الفردي في مقابل التوجيه الجمعي.
العلمانية التي انتهجها ترفض تماماً وتقضي على تحدث رجال الدين في السياسة بصفتهم كرجال دين، وتنهي اللبس وسوء التفاهم الناجمين عن اختلاط الأمر ما بين "الرأي الشخصي" و"الإفتاء الديني الرسمي".
المواطن العلماني ولاؤه الأول لوطنه، لا مرشده او مفتيه او اميره او بطريركه، دون اعتراف رسمي بهوية دينية أو عرقية، ودون انكار أيضاً لأي هوية دينية أو عرقية! وبذلك تنجينا العلمانية من مستنقع "حقوق الأقليات"، فلا نوضع في مأزق منح الامتيازات أو الاستثناءات التشريعية لفئة دون الأخرى - فالدولة العلمانية لن تراني إلا كمواطن مصري.
العلمانية التي انتهجها تسمح لكل مواطن أن يعتنق هذا الدين أو ذاك، أو التحول من هذا لذاك، أو انكار ذلكم كلهم - لسبب بسيط وهو أنها غير معنية بمسألة الأديان هذه برمتها! العلمانية لا تقدم ديناً معيناً على أنه الأفضل أو الأسمى أو الأكمل، إنما تفتح المجال للأديان كلها فتنساب متهادية أمامي، ويكون الفيصل في اختياري ضميري وقلبي لا سيف القانون أو ضغط المجتمع.
العلمانية التي انتهجها تتيح لي شرح رؤيتي في اعتناق هذا الدين ورفضي لذلك، بنقد موضوعي علمي، يقف القانون المحايد عليه رقيباً يضمن عدم التجريح في الغير أو الازدراء به.
في العلمانية التي انتهجها، اصون حقي في أن اكون مسيحياً بأن اكفل لك حقك في أن تكون يهودياً أو مسلماً أو حتى ملحداً.
العلمانية التي انتهجها لا تنحصر في نظرة واحدة للكون ووضع الإنسان فيه، إنما تسمح لكل الأفكار والنظريات والمعتقدات بالتواجد جنباً إلى جنب - فيكون البقاء للأصلح، وتكون اسبقية وأولوية هذا الدين أو ذاك لا مفروضة بقانون، إنما مكتسبة عن جدارة واستحقاق.
العلمانية التي انتهجها تخلق مجتمعاً تعددياً، في ظل احترام حرية الفرد والمساواة العمياء بين جميع المواطنين.
وليس ما سبق هذا وصفاً تجميلياً مرسلاً اتغزل به في العلمانية بعبارات والفاظ مزركشة، إنما هو تعريف وتوصيف حقيقيان. ليس ما سبق انفعالاً عاطفياً بالعلمانية، إنما مبادئ حقيقية ننادي ونؤمن بها وفي العديد من الدول نطبقها نحن العلمانيين.
إذاً، إجمالاً، تتسم الدولة العلمانية عامةً بالآتي:
- الحرية الدينية المطلقة - فيسمح لأي مواطن باعتناق هذا الدين أو ذاك، أو التحول عن هذا الدين إلى ذاك، أو الامتناع عن اعتناق أي دين
- عدم وجود "دين رسمي" للدولة ككيان سياسي
- عدم تخصيص أي جزء من موارد الدولة لأي كيانات دينية
- تحرير تشريعات الدولة من السيطرة الدينية
- السماح لأي كيان سياسي بالوصول إلى السلطة بغض النظر عن هويته الدينية
- الحياد التام في المسائل الدينية - فلا الدولة تؤيد ولا تعارض الدين
0 comments:
Post a Comment