للزوار الجدد: لحظة من فضلك! نرجو الاطلاع على سياسة المدونة قبل قراءة التدوينات

Tuesday, March 6, 2012

بلد تِقرِف

بلد تِقرِف.
جملة بنقولها ع الأقل مرتين في الاسبوع: كل خميس بعد الضهر، وكل حد الصبح.
ده غير ان طول الاسبوع في كل مشاويرنا شايفين اكياس بلاستيك مكعبشة بتتنطط ع الرصفة، وبراز الدواب ع الاسفلت بريحته العفنة لو يوم حَر، بنخبط في كتاف بعض ونعمل عُبط عشان لو دقينا على كل كتف خبطنا مش هانتحرك من مكاننا خطوتين على بعض. حتى الشجر تحسه خوازيق في الطريق تكدرنا وتعسفنا، بتزحم الرصيف اللي هو سايعنا بالعافية اصلاً.
معالم البلد مخفية ورا ستارة دخان شكمانات وعفرة تراب، وغيمة دوشة وخناق وشتيمة وصياح. حتى اصوات العصافير مابقيناش نسمعها غير في الأفلام. احتكاكنا بالعصافير بقى مقتصر على اللا مؤاخذة اللي بتعمله علينا بقدرة قادر في النُص لحظة اللي بنعدي فيها تحت فرع شجرة!
الحل عند كتير مننا انه مافيش حل، يللا نمشي من البلد بحثاً عن الجمال والرونق. نروح بلاد الجليد والجبال والغابات. نشم هوا نضيف ونصَيِّف مع بنات البيكيني بعناقيد الورد تحت شجر جوز الهند. نسهر ع النجيلة في جنينة نِعِد النجوم بتلالي. نشوف العجايب، برج ايفل وبيج بين وديزني ولا ان شالله سور الصين.
بس حصل معايا من كام يوم عكس ده. كنت باجري يوم جمعة الصبح بدري، على 8 كده. الدنيا هِو، مافيش جنس مخلوق، وفين على ما عربية تسفخ جنبي.
شفت يومها البلد كما لم ارها من قبل.
شفت حمام بيتنطط ع الرصيف، بيجري ورا ورق شجر ناشف استغنى عن افرع شجره وسرح. بدل كتاف بني آدمين شقيانة بتخبطني شمال ويمين، كان بيلفني ويلمس كل حتة فيّ هوا نضيف ساقع صافي. من غير اصوات البشر والعربيات سمعت اصوات الف الف عصفورة في مِيْت شجرة حوالية. سمعت صوت ورق الشجر بيوشوش بعضه فوقيا، كأنه بينم على كل نسمة هوا تعدي. حتى الشجر نفسه شوفته على حقيقته. ماعادش خوازيق في الطريق تزحم رصيف سايعنا بالعافية، انما شوفته تحف خضرا على جذع بُني منقوش متين.
شفت لانشات وبواخر راسية على ضهر نيل ازاز بيبرق، طالعة نازلة بشويش مع الموج الهادي كأنها دبت فيها الروح مخصوص عشان تتنفس الهوا النضيف. شفت شباب مالقاش حد يوظف طاقته ورفض يسئ استخدام عافيته، شباب تعب من المعافرة ضد تيار مجتمع عايز أي حاجة الا انه يتحرك، فقرروا يجدفوا ضد تيار النيل في قواربهم النحيفة على ما تُفرَج. حتى البنت الحلوة اترزقت بيها، بتجري عكسي، وخصلتين من شعرها هربانين من الباندانا مخصوص يشاورولي على وشها المزمهر ونور الشمس بيترقص على تقاسيمه.
معالم البلد الأصلية اتجلت قدامي. السما كرمتني بِرَشّة مطر ماكملتش 10 دقايق، يادوب نزلت غسلت لي المباني والحيطان والاسوار وتوريني حقيقتها اللي احنا مشوهينها. شفت اسدين قصر النيل لأول مرة من زمن ماحواليهمش اكوام بشر منسوجين في بعض. شفت كورنيش جاردن سيتي لأول مرة من زمن من غير بياعين القصافات والمناديل... من غير عيال مدارس الثانوي اللي بيستكشفوا لأول مرة المزيج الغامض بين غريزتهم وتخيلاتهم اللي اسمه "حب"... من غير متسولين طحنهم الزمن وساب اشلاءهم قدامنا تذكار يفكرنا بجبروت الزمن علينا... شفت الكورنيش على ما هو اصلاً عليه: ضفتين محاوطين نهر، مش شارع مزحوم بينقلني بين جبهة معركة من معارك اليوم والتانية.
شفت معالم البلد كما نريد لها ان تكون.
البلد مش محتاجة تتبني من جديد. البلد عايزانا بس نشيل التراب اللي اتكوم عليها واتسرب ليها. تراب اتكوم واتسرب من اهمالنا احنا. البلد حلوة مش محتاجة تجميل، البلد عايزانا بس نمسح الهباب اللي اتلطخت بيه. هباب اتلطخت بيه من طناشنا احنا. ميدان التحرير بعد الثورة ما احتاجش يتساوى بالأرض ويتصمم ويتبني من جديد، لأ، احتاج بس يتنضف من اللي اتراكم فيه مطرحنا احنا.
انسوا وهم "الجمال في عين الرائي". دي معناها ان الجمال يروح لحظة ما الرائي يروح. مع بلدنا، ده مش صح! احنا هانروح، وبلدنا هاتفضل جميلة، وهاييجي غيرنا بعدنا، هايشوفوا جمالها. احنا هانروح ونتنسي، بس الحمام هايفضل يتنطط بين الفروع. احنا هانروح ونتنسي، بس الشمس هاتطلع كل يوم تجلي النيل. احنا هانروح ونتنسي، بس هايتولد بعدنا صبيان عفية وبنات حلوة، وهايشوفوا ويقدَّروا قيمة الجمال اللي احنا حارمين  نفسنا منه. اللوحة الجميلة موجودة مرسومة ومتبروزة، بس احنا اللي معلقينها بالمقلوب وشها للحيط!   
بلدنا جميلة، بس احنا مش بنحط الحاجة في مكانها. المباني حطيناها مكان المزارع. الحِصِنة والحمير حطيناها مكان العربيات. العربيات حطيناها مكان البني آدمين. العيش حطيناه ع الرصيف مكان الجزم، والجزم حطيناها على ارفف في الفتارين مكان الكتب. غير ده وده، احنا الشباب عملنا ثورة حطيناها في ايد العواجيز. بعدين صبينا صَبِّة ديمقراطية حطيناها في ايد اللي مبدأهم ان الديمقراطية كفر. من بعد الثورة اتقتل كتير حطينا مسئولية رجوع حقهم في ايد المسئول عن قتلهم. الأجنبي اتحط مكان المصري، والمصري اتحط في مقام الغريب. المشايخ حطيناهم مكان العلما، والمعبد حطيناه مكان المحكمة. في كل حاجة في حياتنا، عندنا العيش وعندنا الخباز، بس مابنديش العيش لخبازه، فالنتيجة ان العيش بيتحرق، والخباز بيتخنق بالعطلة والملل!  
واحنا لسة بنفكر كأن اصل المشكلة مش فينا. العيبة ع البلد. احنا حلوين قوي، آه وربنا، بس حسني مبارك كان جايبنا ورا منه لله. بأمارة من ساعة ما مبارك مشي بطلنا نرمي زبالتنا في الشارع، ومصانع اعادة التصنيع والتدوير شغالة بالطاقة القصوى. من يوم 11 فبراير 2011 بنعدي الشوارع من عند الاشارات مش من حيثما تيسر. من ساعة خطاب التنحي واحنا ملتزمين بأبواب النزول والصعود في المترو.
جاتنا خيبة.
حتى توصيفنا لمشاكل بلدنا غلط. في لا وعينا بننكر ان احنا السبب واحنا الحل، بنهرب من مساءلة ضمايرنا ومن المسئولية. بقى العادى على لساننا نقول "الشوارع مليانة زبالة" بينما حقيقية المشكلة "احنا ماليين الشوارع زبالة". بنقول "المواصلات زحمة" بدل "احنا زاحمين المواصلات". عملنا بإيدينا ثورة، بس لسة بنسأل "البلد رايحة على فين؟" بدل "احنا واخدين بلدنا على فين؟". بنشتكي "الثورة لسة ما نجحتش" بدل "احنا لسة مانجَّحناش الثورة".
في جملة وصف حالنا، المفعول بيه اتحط مكان الفاعل، والفاعل الحقيقي حذف نفسه وانزوى.
لأ البلد ما تقرفش. احنا اللي نقرف. وماحدش هايغيَّرنا غيرنا. آه، الثورات تمحو اخطاء الشعوب، لكنها لا تعصمها من الخطأ. الثورة شالت الحِجة اللي كنا بنتمسح فيها وبنعلق بلاوينا عليها. لازم نتغير احنا بقى!
مبارك ورجالته عكوا الدنيا وضلوا عن الصح، والشعب ثار وصحح المسار. بس لو الشعب نفسه ضل، مين يثور عليه؟!  

اضغط على الصور للتكبير.
شكر خاص للزميل الفنان د. عمرو على عيسى على اللوحتين الفوتوغرافيتين الرائعتين!
(اضغط على الاسم للمزيد من أعمال الفنان)





0 comments:

Post a Comment