نُشِرَت بتاريخ 22 يونيو 2011
***
***
اعتدت قطع نصف المسافة من بيتي إلى كليتي سيراً على قدميّ. انزل من الميكروباص أمام جامعة القاهرة، وامشي بمحاذاة سور حديقة الحيوان، عبوراً لكوبري الجامعة مخترقاً شبورة الصباح التي تغلفه، ووصولاً إلى قصر العيني.
كنت على أول الكوبري ذات صباح، حين رأيت إلى الأمام انساناً نائماً بعرض الرصيف. طننته في بادئ الأمر أحد المجاذيب الذين يهيمون في الشوارع ويستلقون للنوم أينما وصلت بهم أقدامهم. حين اقتربت منه، وجدته على ما يبدو عاقلاً، إذ لم تكن كسوته تلك الأسمال وخليط الأردية المميزين لأهل الشارع من المرضى العقليين، كما كان حليق الوجه - وإن كان جلياً في ثيابه وهيئته بؤس وفقر أبناء الشارع المُشَرَّدين.
إلا أن أمراً آخر خطف أبصاري واكد لي أن ذلك الشريد المفترش رصيف الكوبري والملتحف بالسماء واعٍ وفي كامل قواه العقلية.
فقد لف رأسه بكوفية، وقد ربطت تلك الكوفية إلى جبينه مصحفاً صغيراً.
وكانت تلك لحظة من لحظات انفصل فيها عن الواقع، إلى عالم شاعري مثالي - عالم لا يُرَى ولا يُلمَس، إنما هو منتجع ذهني، خلقه الله لنا في عقولنا، نلوذ به بين الفينة والفينة من خشونة واتربة ومطاردات حياتنا اليومية.
تبخرت من ذهني حينذاك كل اسوار وعُقَد واقفال وحواجز اختلاف الأديان والمذاهب والطوائف والشيع.
نسيت أن هذا مسلم وذاك مصحف وأنا مسيحي.
تجاهلت أن الاسلام يرى مسيحيتي كفراً وشركاً وتحريفاً وأن المسيحية ترى اسلامه ضلالاً وحاجة للخلاص والاستنارة.
نزعت عني سلاسل "التسامح" و"الشراكة في الوطن" الذهبية - التي وإن كانت ذهباً خالصاً فهي قيود في آخر الأمر - ولم أرَ إلا مخلوقاً يحتمي من أهوال الدنيا بما وثق أنه كتاب خالقه.
رأيت نفساً بشرية تجردت واستسلمت للنوم وسط أخطار الشارع، فلم تجد خوذة لرأسها إلا الكتاب الذي آمنت بألوهيته.
ربما قضى ذلك الشريد يومه مغيب العقل بمخدر أو مسكر ينسيه واقعه العلقمي، وربما سرق واعتدى ليضمد طعنات جوع قاسٍ مزق احشاءه، وربما لم يجد دفئاً بشرياً وحناناً إنسانياً إلا بين احضان امرأة لا يربطه بها إلا الخرابة التي يتستران فيها - ولكن حين انتهى به المطاف وحيداً في العراء بلا وقاية، دفعته فطرته لربط كتابه المقدس إلى جبهته، مفضلاً أن يحتمي به وينام مطمئناً، على أن ينام وقد خبأ مطواة بين طيات ملابسه.
عدت إلى الواقع سريعاً، وعبارة واحدة تزعق في داخلي: الإيمان الداخلي المُسَلِّم تسليم الطفل! وعاودت سيري إلى الأمام عبر النيل الفضي - بعد نظرة سريعة عبر المياه المتلألئة لمبنى مقر الحزب الوطني المحترق - وقد ارتسمت في ذهني تصورات لمصر لا تعرف عن بنيها إلا أنهم مصريون، تاركةً لكلٍ شأن دينه... مصر لا يعرف أهلها تكفيراً، بل ينظرون إلى ما وراء اختلاف "الدين" إلى اتفاق الاحتياج إلى "الإيمان"... مصر لا يرى أهلها الدين "بطاقات تمييز وتميز" بل علاقة باطنية بين خالق ومخلوق... مصر يرفض أهلها معتقد البعض الآخر دون أن يرفض شخصه... مصر لا تعرف ولا تحتاج أقنعة وحدة وطنية مفتعلةً، تخبئ وراءها تراكمات تخوين وتكذيب وتغريب وعزل وانعزال نتنة... فقد ارتسمت في ذهني تصورات لمصر الدولة الليبرالية والعلمانية.
مصر التي لا تحتاج أن يحتضن الهلال صليباً ولا القسيس شيخاً، إذ هي كفيلة تحتضن الكل سواء.
0 comments:
Post a Comment