لم يتفاجأ اي متابع للمشهد السياسي المصري منذ سقوط مبارك في فبراير 2011 بنتائج الانتخابات البرلمانية الراهنة. فقد ركبت التيارات الدينية الثورة فـ"تمطعت" واسترخت، وتدريجياً انتهجت منهج تكفير وتخوين واخيراً محاولة اقصاء التيارات الليبرالية كليةً. مع ان الضمير والتاريخ يشهدان ان ميدان التحرير طوال الـ 18 يوم كان ليبرالي اللب والنخاع – فالليبرالية هي تواجد جميع التوجهات والاطياف السياسية جنباً الى جنب، دون تفضيل فئة على اخرى او تمييز "فرقة ناجية" عن الباقين.
تنتهج التيارات السياسية الدينية منهج "اعادة اختراع العجلة". فهم يريدون تجاهل خبرات العالم المتقدم اجمعها، ثم التجالس معاً جلسات بناء الدولة من جديد بطريقة "التجربة والخطأ". فكانت النتيجة حتماً تكفير الليبرالية والعلمانية، وهما المنهجان السياسيان اللذان يتفق عليهما اغلب دول العالم التي تحققت فيها الديمقراطية غايتنا. وحجتهم في هذا اننا امة مختلفة وهوية متميزة. صحيح، ولكننا الان في مقام المبتدئين سياسياً، ولدى ثورتنا ميزة قد تقدمنا حتى على دول الديمقراطية المكتملة: خبرات السابقين، فهم حين ثاروا (بدءاً بالثورة الفرنسية 1789) كانوا يشقون درباً جديداً، اما نحن فطريق خبراتهم واخطائهم واستنتاجاتهم امامنا! نحن جزء من عالم هو الآن قرية صغيرة يا ناس! لن تفلح محاولات الانعزال وتجاهل كل ما حولنا، والا صرنا افغانستان او سودان او صومال!
وبعد، فانطلاقاً من مبدأ الاستفادة من خبرات الماضي، فقد وجدت في تاريخ صعود وسيطرة النازية بعض الملاحظات، اثارها في ذهني مَن يتشدقون بالاغلبية واعداد الاصوات، ويغمضون اعينهم عن السياق المجتمعي والسياسي الذي افرز اصواتاً لتلك "الاغلبية". لا اعلم ان كانت التيارات الدينية تتجاهل عمداً ان الاغلبية التي نالوها لم تأتِ عن قناعات سياسية، قدر ما اتت وليدة عاطفة دينية لدى شعب يعاني اغلبه من الامية ويفتقر الى الثقافة، ام ان تلك التيارات تجهل فعلاً تلك الحقيقة بسذاجة سياسية مخجلة!
فاقول لهم: ان كنتم تتمسكون بالاغلبية العددية للاصوات على اطلاقها متجاهلين سياقها، فمن حقي اذاً التمسك بمخاوفي التي تحذرني منها خبرات الماضي!
المقتطفات التالية هي من كتاب "هتلر حياته ونواحي شذوذه" عن دراستي بولوك وشيرار من سلسلة "اعلام ومشاهير" باشراف د. رؤوف سلامة موسى بدار ومطابع المستقبل. ادعو القارئ لملاحظة التشابهات الشديدة بين ما يأتي وبين مواقف وتصريحات التيارات السياسية الدينية خلال الشهور الماضية.
· بعد دقائق قليلة من بداية خطبه (اي، هتلر) يصبح مدفعاً رشاشاً يطلق كلماته بدون تمييز في كل اتجاه. ومع ان بعض هذه الكلمات المتدفقة، كان يطيش عن هدفه، ولا يجد لها القارئ بعد ذلك معنى في ذهنه، فانها كانت تحدث وقت انطلاقها، السحر في نفوس مستمعيه. فيعلو البشر وجوههم، ويفيض حماسهم، وترتفع الايادي مصفقة ثم الحناجر مدوية. وما من شك، ان بعض اقوال وشعارات هتلر كان يخالف العقل والمنطق، وانه كان يهتم في وضعها بشحنتها العاطفية، وجرسها الرنان في نفوس الجماهير الالمانية. ولكن هتلر نجح، رغم هذا، في كسب ثقة اعداد متزايدة من الالمان.
· في انتخابات سبتمبر عام 1930، احرز النازيون اكثر من 5 ملايين صوت. ونالوا 107 مقعداً في الرايخستاج. واخذ الالمان يوافقون النازيين الى ان الاحوال في بلادهم تحتاج الى "مُخَلِّص".
· كان النازيون يؤمنون ان من يسيطر على الشارع يسيطر على الساحة السياسية في البلاد.
· في يوليه عام 1932، رشح هتلر نفسه لرئاسة المانيا، منافساً البطل الالماني فون هندنبرج. ومع ان هتلر لم يحصل على غير 9 ملايين صوت (مقابل 13 مليوناً لفون هندنبرج) فان عدد النواب النازيين في الرايخستاج ارتفع الى 230 نائباً (مقابل 81 للشيوعيين).
· رفض هتلر منصب نائب التشانسلر. ورفص في نفس الوقت، ان يطاوع المتطرفين من اعوانه، وان يقوم بانقلاب لتغيير السلطة بالقوة بعد تجربته الاولى الفاشلة في بوتش عام 1923. اذ كان موقناً انه لو فعل، لتدخل الجيش الالماني ضده، وفقد كل امل في حكم المانيا.
· في 30 يناير عام 1932، استسلم فون هندنبرج لهتلر. فاصبح الاخير تشانسلر لالمانيا. ومع ان عدد الوزراء النازيين كان قد حُدِّدَ بثلاثة من بين 11 وزيراً، فان احداً لم يعد يقوى، بعد ذلك، على وقف سيطرة النازيين على المانيا.
· استطاع النازيون خلال اشهر قليلة من توليهم الحكم، وبفضل اجراءاتهم البوليسية العنيفة، وفرقهم المسلحة، وتفضيل منافسيهم السلامة والهروب، ثم نجاحاتهم الباهرة بعد ذلك في الداخل كما في الخارج، ان يحكموا المانيا من دون اية مقاومة تقريباً، طوال الاعوام الاثنى عشر التالية.
· التف الالمان حول هتلر، وحول نظامه، بما يشبه الاجماع. وفاقت نسبة الموافقين له، في اواخر الثلاثينات، الـ 90% من الناخبين، وكانت عند توليه الحكم تقل عن 50%.
· كانت اللكمات القوية التي يكيلها هتلر للدول الاوروبية (وقف دفع تعويضات معاهدة فرساي، الانسحاب من مؤتمر نزع السلاح ومن عصبة الامم) تجد التأييد والاعجاب من اغلبية الشعب الالماني. وقد اثبت هتلر للعالم احاسيس شعبه، حين عقد، عقب انسحابه من هيئة الامم، استفتاء شعبياً على سياسته الخارجية. فايدها 95% من الناخبين.
ولا حاجة لنا للتذكرة بديكتاتورية هتلر وجرائمه، وبمصير المانيا، اي الاغلبية التي ساندته طوال الطريق، على يديه – رغم انه وصل الى سدة الحكم بديموقراطية صحيحة وعلى اعناق اغلبية كاسحة، ورغم ما حققه من انجازات ملموسة على ارض الواقع:
· بدأ النازيون منذ عام 1933 خطتهم الأولى "السنوات الأربع"، التي سخت فيها الدولة بأموالها، لبناء الطرق، وللصرف الصحي، ولاقامة المنازل. وشجعت الشباب على الاشتراك بأيديهم في كل هذه الأعمال. وعلى الاقدام على الزواج (بتقديم المنزل والقروض) في سن صغيرة.
· تناقص عدد العاطلين بسرعة، من 6 ملايين في 1933 إلى 2.5 مليون فقط في 1934، ثم الى لا شئ تقريباً في العام التالي، 1935.
· وفي نفس الوقت، كان هتلر قد حدد الأجور، وقضى على التضخم، ومنع اضرابات العمال منعاً باتاً. حتى إذا أهل عام 1938، كان الرخاء يعم انحاء المانيا.
لكن، رغم كل ما سبق، فلأن هتلر رأى في نفسه وحده المُخَلِّص الذي انتظره بلده لانتشاله من مآسيه، ولأن منهجه الفكري قام على تميز فئة على باقي الفئات اجمع – فالى حانب فكرة الجنس الآري، انشأ هتلر "الصفوة الثورية في اوروبا"، جنود الـ إس إس، وطلب من كل متطوع أن يثبت دماءه "الآرية"، حتى عام 1750 على الأقل. وحتم عليهم الزواج من "آريات"، ووجوب فحص زوجاتهم، واقرار زواجهم بهن، قبل اتمامه. فاذا انجبوا من زوجاتهم ابناء، أدخل هؤلاء الأبناء إلى معاهد خاصة مميزة تقوم على تربيتهم وفق تعاليم النازية (واقعة "الفلوطة"...؟) – لهذا، كان مصير هتلر ما كان، ولم يدم الرايخ الثالث، الذي قال عنه هتلر انه سيدوم 1000 سنة، سوى 12 سنة... واسمعي يا جارة.
هنيئاً لكم اذاً الاغلبية التي وصلتوا اليها، وليوفقكم رب العباد ويهديكم الى صالح مصر الحقيقي. وآمل الا تسحلوا هذا البلد المسكين الى ظلمات الرجعية والجمود بتمسككم بمنهج تكفير واقصاء المعارضة الليبرالية... الاغلبية لا تعصمكم من الخطأ، وقياساً على تناقضاتكم وتقلباتكم منذ تحريمكم الخروج عن الحاكم وتكفير الديمقراطية الى تكالبكم على مقاعد البرلمان، ارى ان مصر معرضة للوقوع في مستنقع عفن، ان لم تفق القوى الليبرالية لانقاذ ما تبقى من "ميدان التحرير" الذي عرفناه، طوال الـ 18 يوم، منبراً لليبرالية.


1 comments:
ra2e3 kal 3ada! agree fe kol elli olto ta2rebn... bss hanestana 12 sana?!! ;)
Post a Comment