كانت تفاصيل الوضع القائم منذرة بالاعصار الهادر الوشيك.
انصرف الحاكم عن شئون بلده الى قضاياه الخاصة وحياته الشخصية وانشغالات يومياته. لم يرَ حال البلد الا بعيون حاشيته وخواصه الاقربين، والذين قدموا بدورهم نصائح وشورى لم تكن الا طموحاتهم الفردية واطماعهم الانتهازية مغلفة في عبوات "استشارات".
التحفت تفاصيل الاقتصاد بسحابة من الغموض المذهل. فبينما الموارد متاحة ومعروفة للجميع، والايرادات على ما يبدو "تحت السيطرة"، تجلى الفقر بفجاجة في كل مظاهر حياة المجتمع ، وتراكمت الديون الداخلية والخارجية على عاتق الدولة يوماً بعد يوم.
تشوه المجتمع بطبقية مجحفة وظلم مخجل في توزيع الثروات... فالكثير يتكدس في خزائن "النخبة" القليلة المتنعمة، بينما تكدح الاغلبية من اجل القليل الذي بالكاد يضمن كفاف اليوم. دخل المجتمع في دوامة نتنة من الفقر والجهل والمرض واللامبالاة والعنف – فالمعدة الجوعانة تكبل العقل. وانجرفت "النخبة" الى دوامتها ايضاً، دوامة المال الذي يشتري السلطة التي تيسر اقتناص المزيد من المال الذي يعزز النفوذ، حتى صاروا اسياداً يمتلكون البلد، بينما العامة هم كعبيد احساناتهم. تجبر "السادة"، وانتهكوا موارد الوطن – البشرية والمادية – لصالح منافعهم ورفاهيتهم. وهُتِكَ عرض الوطن يوماً بعد يوم.
فتحت السجون والمعتقلات ابوابها في ترحيب ساخر بجميع افراد الشعب. امسى الحصول على ورقة بوشاية او تلفيقة ايسر من الحصول على قليل من الضأن. كانت شكوى بسيطة للجهات المعنية، مسنودة بما تيسر من النفوذ، كفيلة ليجد المرء نفسه شبه مختطفاً وملقياً به في زنزانة معتمة، لا يعلم مخلوق عن مصيره شيئاً – وربما بقى معتقلون في زنازينهم حتى نسى امرهم من زجوا بهم فيها اصلاً.
ووسط ذلك المستنقع الآسن، سرت عدة حركات شبه سرية، تدبر لأمر ما... تناوش بين الحين والآخر مناوشات ضد السلطة – مناوشات كأنها عدَّات قنبلة موقوتة تنذر بما هو آتٍ.
واندلعت اول شرارة في مستودع بارود الثورة.
ماجت العاصمة بعشرات آلاف الثائرين، ومن العاصمة انتشرت الموجة الى كافة الضواحي والمدن... تهاوت اول ما تهاوت السجون ومراكز الشرطة خادمة البلاط، رموز الحكم الدموي... خرج المساجين من زنازينهم، وقُتِلَ مَن قُتِلَ من سجانين ومساجين سواء. ولبرهة، سرت في جسد الوطن رعشات فوضى وخراب ودمار ونهب وسلب.
وبقى الحاكم متقلصاً على كرسيه، حاسباً الثورة تمرداً لا اكثر.
استمر الثوار على احتجاجهم... واستمرت تهويشات الحاكم وبلاطه... تضاعف المتظاهرون والمحتجون يوماً بعد يوم... انضم العسكر للثوار... سقط القتلى والجرحى... توالت تنازلات الحاكم... والثوار على ثباتهم.
سقط الحاكم، ساحباً معه رموز نظامه. عُقِدَت المحاكمات للمخلوع ورجالات نظامه. وجرى في المجتمع تيار استئصال وتصفية كل مَن اتصل يوماً بالنظام الذي كان وسقط.
وصارت الثورة تلك مضرباً للمثل ونموذجاً يحتذى في القارة كلها، وتناقلت اخبارها دول العالم اجمع.
شئ فشئ، هدأت حمم الثورة الأولى، وما أن اخذت المياه مجاريها الجديدة، حتى بدأت قضايا مجتمع ما بعد الثورة في الظهور – وبظهورها اجتذبت الأنصار ونفرت الرافضين. وما بين مؤامرات داخلية وخارجية – حقيقية ومتخيلة على حد سواء – دخل الثوار بثورتهم في نفق مظلم. تناحرت التيارات السياسية المتباينة، وتعالت الاصوات متجادلة حول مختلف القضايا: الموقف من رافضي الثورة ومؤيدي النظام الساقط... دور المؤسسات الدينية في مجتمع وسياسة ما بعد الثورة... دستور جديد واستفتاء ثم دستور اجدد ثم تعليق العمل به وهكذا دواليك... وبدت الثورة كأنها اخذة في التهاوي امام ضربات داخلية من فلول النظام الساقط، وطعنات خارجية من جيرانها الذين خشوا امتداد عدوى الثورة الى شعوبهم – الى جانب المشكلات التى ورَّثَها النظام السابق، فلا زال الفقراء فقراء، وتعالت المطالبات بتثبيت الاسعار والرواتب. وبدا كما لو ان الثورة لم تضف جديداً الا تفكك القليل الذي كان بالكاد متماسكاً.
لم يجد حماة الثورة للحفاظ عليها بداً من التجبر، فحاربوا "اعداء الثورة" بالاعتقال والتكميم والاعدام ، بل وانقلب قادة الثورة ورموزها في اختلافاتهم على بعض، حتى اعدموا بعضهم البعض! ازدادت الانشقاقات بين مختلف تيارات الأمة، حتى وصلت الى حد الصراعات الاهلية، زاد من وجعها تحرشات الجيران بحدود الوطن. مرة اخرى، عاد الحكم ديكتاتوري، وعادت الدماء الى الشوارع والمخاطر الى الحياة اليومية.
ولم ينتهِ الرعب والتخبط الا باعدام اكبر رجال الثورة نفسه على يد زملائه.
رويداً رويداً، اخذت الامور منحنى الاستقرار. ورغم القلاقل والنمو البطئ والسقطات والنهضات والانتكاسات والنشوات ومحاربات الدول المعادية، بقت تلك الثورة طول الطريق رمزاً للحرية في محيطها، ونفخت في جيرانها انفاس الثورة من اجل الحرية والمساواة والكرامة... وبعد مشوار طويل مضني، جاوز الخمسين سنة، بدأت الديموقراطية تتبلور حقيقة في البلد – ووصلت الثورة الى تمام نضجها بعد عشرات السنين ومئات المناضلين وآلاف الضحايا وملايين الخبرات المكتسبة.
وترسخت تلك الثورة في تاريخ عصرها كرمز وقدوة للحرية – رغم الطريق الذي اسقطت وعورة بدايته الصرعى والمصابين وكلفت اكوام الخسائر المادية والمعنوية، والذي بدا في فاتحته انه مبتدأ درب الهاوية.
--------------------------------------------------
قد يبدو السيناريو المعروض اعلاه، على احسن تقدير، وصفاً لما عايشناه حتى الآن من احداث الثورة و"بهدلة" الفترة الحالية مع تصور براجماتي لمستقبلنا القريب وأمل طَموح في مستقبل بعيد مشرق؛ العجيب أن ما سبق هو وصف موجز لأحداث الثورة الفرنسية اواخر القرن الـ 18 وبدايات الـ 19، عن المصادر التالية
- David A. Fisher, Ph.D., World History for Christian Schools, 2nd edition, © 1994 Bob Jones University Press
- http://en.wikipedia.org/wiki/Reign_of_terror
هي رسالة من خبرات مَن سبقوا، بدت لي بارقة الأمل الوحيدة الباقية وسط الدماء والنيران والادخنة التي تغمرنا - فقد مر السابقون بما هو في مأساوية وضعنا الراهن... ربما، ربما، نجد في تاريخ صراعهم ونجاحهم بعد حين ما يسند ما تبقى من ذلك الحلم الجميل، ثورة 25 يناير!
0 comments:
Post a Comment