لم اتصور ابداً يوماً اقول فيه وانا في التحرير: فاِكس يللا نمشي!
ذلك المكان الذي، حين خطوت فيه اول مرة منذ حوالي العام اقشعر بدني بالمعنى الحرفي للكلمة وانحشرت كلماتي في حلقي، لم اطِق البقاء فيه ليلة الجمعة 27 يناير 2012 اكثر من نصف ساعة!
فبغض النظر عن ان المكان الذي تطهر يوماً بدماء شهداء وعرق ودموع شباب ثوار تتطاير فيه القمامة يمنة ويساراً، وامتلأت صناديق المهملات وفاضت، مزقتني شعارات منصة الاخوان المسلمين! سمم كياني الجو الغريب عن ميداننا حولها!
وصلتُ لحظة ما كان احد منشدي الاخوان يبدأ "فقرة" جديدة على منصتهم، فقرة اناشيدهم الدينية. رفضت المشاركة في تلك الاناشيد. فالاناشيد تلك مكانها حلقات الذكر. اما هنا، في ميدان التحرير، فنحن موجودون لأهداف واضحة محددة مسبقاً مُتَفَق عليها. ووصل الاستفزاز مداه حين صعق اذني مقطعاً انشدوا فيه: "نحن عصبة الاله"! ثم استثار المنشد المتجمهرين بهتاف: "اسلامية! اسلامية!". ردد هؤلاء المواطنون الطيبون من قلوبهم: "اسلامية!" طمعاً في رضا ربهم. اما ارباب المنصة، فاظن ان هتافهم كان طمعاً في رضا الناخبين، وغزلاً عفيفاً لهم حتى يمطروا الصناديق بمزيد من الاصوات لحزب الحرية والعدالة. وكم هالني حين عدت الى منزلي مدلول بقية المشهد؛ فبعد الاناشيد والشعارات الدينية التي رفضت ترديدها، بدأ منشد الاخوان نشيد "اسلمي يا مصر انني الفدا...". كان رد فعلي التلقائي اللا واعي انني لم اشاركه الغناء! نعم، اعترف ان تاجر الدين ذاك استطاع ان يسكتني عن الغناء لمصر! فكانت كل موجة من موجات صوته المرددة لشعارات دينية مفتتةً لنبتة الانتماء في داخلي، تلك النبتة التي كافحت طوال عام مضى كي اقيها شر ما حولها!
سارعت طبعاً الى منصة الشباب الحر، والمقامة في مواجهة منصة الاخوان. "اخوان... بايعين... ثورتنا من زمان!" هكذا هتفت مع شاب يقود المنصة. شاب مثلي، يرى الواقع والمستقبل كما اراهما. يتكلم بالفاظي وجُمَلي البسيطة لا بعبارات رنانة رنين الطبول – فالطبول هي الاعلى صوتاً لكنها فارغة مجوفة لا لب لها – وطموحاته، مثلي، لا تشمل مناصب او سلطة او مركزاً. امله، مثلي، ان يرى وطننا – لا ذاته واتباعه – في الصفوف الاولى، وطناً حراً قائماً على المساواة بين المواطنين واحترام حقوقهم، وعلى شفافية المسئولين وسعيهم وراء خدمة مصالح الوطن لا رغباتهم السلطوية المكبوتة.
لقد تفنن الاخوان المسلمون في تذويب وتفتيت الثورة! لا اعلم اي حس ذلك الذي اوقفهم بمنصتهم في مواجهة منصة الشباب الحر، يحاولون التغطية على هتاف "كلنا ايد واحدة!" بهتاف "اسلامية! اسلامية!". يا عالَم، هؤلاء الشباب الذين تحاولون الشوشرة عليهم وتقفون في مواجهتهم هم مَن حرثوا لكم بسواعدهم ورووا بدماهم تربة تحولتم فيها من فئران الجحور الى نواب الشعب! ليست اسلامية ولا قبطية بل هي مصرية! تريدونها اسلامية اذهبوا الى افغانستان ورجوا حوائط الكهوف بهتافاتكم كما تشائون! وتريدونها قبطية شدوا الرحال الى دولة الفاتيكان! لا للدولة الدينية! صحيح، "اتنين مالهمش امان، العسكر والاخوان"!
تناسى الاخوان ان البرلمان الذي نالوا اغلبيته هو برلمان الثورة لا برلمان الجماعة، والثورة هي ثورة المحروسة لا ثورة المحظورة، ومصر للمصريين لا لـ"شعب الله المختار" كما يرون انفسهم! البرلمان ينتسب للثورة وميدانها، لا العكس. البرلمان منبثق عن الميدان نابع منه. البرلمان هو الصيغة الرسمية لهتافات الميدان. البرلمانيون – نظرياً – هم المتحدثون الرسميون المكلفون من الميدان. الميدان هو الينبوع المترقرق الذي تفرعت منه قناة البرلمان. فماذا يحدث للقناة حين تنفصل عن الينبوع اصلها؟ تركد مياه القناة وتأسن، وتتراكم فيها الاوساخ، حتى تصير القناة وحلاً عفناً سرعان ما يجف. اما الينبوع؟ فيبقى على جريانه ونقائه وطهارته واندفاعه!
ارى ان الحمل على اكتاف الثوار الحقيقيين، ابناء الـ18 يوم، قد تضاعف، فقد كشرت جبهة ثانية عن انيابها امامهم. بات جلياً ان الاخوان المسلمين القوا من ايديهم علم مصر ليتفرغوا لمسح البيادة. فبينما اهتز البلد منذ 25 يناير 2012 هزة لا ينكرها مَن رأى المسيرات باقنعة الشهداء وسمع هتافات "يسقط حكم العسكر!"، لا زال الاخوان في وادٍ آخر، منتشين بمزحة "الاحتفال" الماسخة: "الجماعة مستمرة في قرارها الذي اتخذته مسبقا بمغادرة ميدان التحرير فجر اليوم السبت، وذلك بعد انتهاء فعاليات الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة 25 يناير. لا مبرر لوجود الجماعة بالميدان عقب ذلك، خاصة وان الاحتفال بالثورة قد انتهى بالفعل" (محمود حسين أمين عام جماعة الإخوان المسلمين، عن جريدة البديل الجديد). اذاً فبالنسبة للاخوان، الثورة انتهت، و "لا مبرر" للوجود بالميدان بوصولهم لسدة الحكم. وليحترق الشهداء واهاليهم، وتباً لكل من انتُهِك طوال العام الماضي، وليذهب استقلال القضاء الى الجحيم، وليظل الاعلام الرسمي على سخفه. اما هم، فيريدونها "هيصة"!
يبدو انه كما خلعنا حسني مبارك ولا زلنا نصارع اذياله وبواقي نظامه المتناثرة داخل كل مؤسسات الدولة، سيأتي يوم قريب يذهب فيه العسكر، لكننا سنحتاج بعده ايضاً الى منازلة واستئصال اذيالهم التي تتلوى بين صفوفنا وحتى داخل ميدان تحريرنا!
1 comments:
و أقعدوا
Post a Comment